العود
ملك الآلات العربية
إن الرقم الطينية التي عثر عليها في العراق وتعود إلى العصر الأكادي كانت تصور مشهدا لعازف عود ذي الرقبة القصيرة. وهنالك رقمان طينيان في المتحف البريطاني الآن نشرهما السير بومر أول مرة في الأربعينيات. كذلك تذكر المصادر وخصوصا التي وصل إليها الباحثون الألمان مثل هلمان والانجليزي سمث والعراقي أنور رشيد أن أقدم ظهور لآلة العود كان في العراق القديم وذلك في العصر الأكادي (2350/2150ق.ب) ودليل هذا الرأي وجود الختمين الاسطوانيين لدى المتحف البريطاني في لندن (BM28806-BM89096) ا والذي يرتقي زمنهما إلى العصر الأكادي.
كما يعتقد أن العود قد استخدم في العصر الأكادي لأول مرة. ولان حجمه صغير ويسهل حمله أثناء السير ويمكن استخراج أكثر من نغمة من كل وتر, صار يستخدم في المواكب والعبادة والطقوس الدينية أيضا.
أما عن شكل العود فلم يكن العود على شكله الحالي بل كان زنده أطول وصندوقه الصوتي أصغر ووجهه الأمامي من الجلد وصندوقه الصوتي من الخشب ويحتوي على وترين حتى العصر البابلي القديم وبعد ذلك أصبحت له ثلاثة أوتار ولم يثبت علميا واضع الأوتار ومخترعها.ويحتوي على مفاتيح (ملاوي) تربط فيها الأوتار لكل مفتاح وتر على العكس من الآن لكل وتر مفتاحان, كانت أوتاره تصنع من المعدن على الأغلب, وكان العود يحتوي على العتب (الدساتين).(FRET)
كانت طريقة العزف عليه تتم باليد اليسرى لجس الأوتار من ناحية الزند (العنق) واليد اليمنى تستعمل للضرب على الأوتار في نقطة بالقرب من مقدمة الصندوق الصوتي. لم تكن الريشة مستخدمة آنذاك, بالنسبة لليد اليمنى (يتم العزف بواسطة الضرب بأصبعي الإبهام والسبابة من اليد اليمنى).
وعن وجود العود في الحضارة العربية القديمة جدا هنالك منحوتة سبأية مؤرخة في القرن الثالث أو الرابع الميلادي, لا يختلف العود فيها تقريبا عن العود الحديث وهو يحتوي على ثقبين مدورين لتقوية وتضخيم الصوت الذي ينبعث من الآلة أثناء العزف.
في هذه الفترة حدث تغير مهم للعود وهو تغير وجهه من جلدي إلى خشبي بما ساهم في تغير نوع وقوة الصوت. وفي هذا الزمن عرفت له أسماء كثير كالمزهر والكردان والبربط والمتوتر والعود ولكن قاموس العرب الأقدمين استخدم اسم العود وهو أقدم اسم عرفه العرب,
وكان العود الآلة الرئيسية التي استخدمت للغناء والتلحين والعزف المرافق للمغني, كما واستخدمه بعض الشعراء مثل الأعشى مع الانشاد.
وجاء النغم العظيم للعود في العصرين الأموي والعباسي ذلك لاستخدامه في جميع المجالات وبصورة رئيسية, أما تطور نظرية الموسيقى العربية والتطبيق النظري للكثير من النظريات الفلسفية والعلمية فقد أسهم في تطور استخدام آلة العود وجعله الآلة الرئيسية رغم وجود الكثير من الآلات الأخرى وذلك لأنه الوحيد القادر على تفسير العلاقة بين الموسيقى والعلوم الأخرى كما يذكر الكندي في أحد مؤلفاته. شكل العود لم يكن يختلف عن شكله في الجاهلية وظل بأربعة أوتار وتصنع جميع أجزائه من الخشب, لكن تم تطوير المادة التي تصنع منها الأوتار حيث أصبحت تصنع من أمعاء شبل الأسد وليس من أمعاء سائر الحيوانات كالسابق. حسبما جاء في نفح الطيب.
ومثلما انتقلت الكتب والمخطوطات التي تحمل النظريات في كافة العلوم انتقل العود عبر بلاد الأندلس في القرن الرابع عشر. لذلك نجد أن كلمة (العود) العربية تستعمل في اللغات الأوروبية حيث إن كلمة العود انتقلت إلى أوروبا في العصور الوسطى وذلك بعد أن سقط حرف الألف وصعوبة تلفظ غير العربي لحرف العين فأصبحت الكلمة (لود) و(لوت), واللوت آلة اشتهرت كثيرا وكتب لها مؤلفون عظام في القرنين السادس والسابع عشر مثل فيفالدي وباخ وسكارلاتي.
أهم الإضافات والتطورات التي حدثت للعود هي تغير وجهه من الجلد إلى الخشب, وأول من قام بذلك هو النضر ابن الحارث حيث جاء من مكة إلى الحيرة وأقام في بلاط اللخميين الذين اشتهروا برعايتهم وتشجيعهم للشعر والموسيقى, الحدث الآخر هو تغير المادة التي تصنع منها الأوتار حيث صارت تصنع من الحرير بعدما كانت تصنع من أمعاء الحيوانات وذلك في العصرين الأموي والعباسي ولا يعرف شخص محدد أو أول من قام بهذا, إضافة الوتر الخامس الذي نظر له الكندي ووضعه على حساب السلم الموسيقي المعدل, لكي يتمم السلم ذا الديوانين (أي الأوكتافين) حيث نفذ ذلك عمليا زرياب الموسيقي الأشهر والمغني المعروف وذلك في منتصف القرن التاسع الميلادي, كما قام زرياب بعدة إضافات أهمها استخدام الريشة للعزف على العود بدلا من استخدام أصابع اليد اليمنى الذي كان شائعا منذ الوجود الأول للعود. أمر آخر أضافه زرياب هو المزج بين أمعاء شبل الأسد والحرير في صناعة الأوتار التي يستخدمها. بعد ذلك ظل العود ذو الأربعة أوتار يستخدم أيضا وسمي بالعود القديم أما ذو الخمسة أوتار فقد سمي بالعود الكامل. في القرن الرابع عشر تمت إضافة الوتر السادس حيث جاء في مخطوطة (كشف الهموم والكرب في آلة الطرب) عن العود: (وهو أنواع بحسب عدد أوتاره فمنه عود ذو اثني عشر وترا ومعشر ومثمن) ونحن نعرف أن أوتار العود مزدوجة أي أن كل وترين يتساويان في إصدار نغمة واحدة. مما يدل على أن هنالك عودا ذا ستة أوتار مزدوجة في القرن الرابع عشر الميلادي.
للفلاسفة العرب دور كبير في التنظير للعود.. خصوصا الكندي فقد جعل من العود الوسيلة التي تدرس على أساسها العلل الفلكية وربط بين أوتار العود ومزايا الإنسان وجعل الموسيقى فرعا من علوم الفلسفة. واستخدمها للعلاج كما جاء في رسائله ومؤلفاته السبعة عن الموسيقى, وكذلك فعل ابن سينا والفارابي وصفي الدين البغدادي الذين جاءوا من بعده بعشرات السنين, حيث اتبعوا منهج وقواعد الكندي وأضافوا عليها بعض المزايا.
ان التقنية العالية وأسلوب العزف المتطور والقدرة على استخدام كل تقنيات العود وسيلة مهمة جدا ومفيدة للعازف لكنها تصبح سلبية إذا تحولت إلى غاية ويكون العازف همه عرض إمكانياته العضلية, لابد من توظيف كل ما تمتلك إلى الروحية. في بعض الأحيان يحتاج العازف إلى التقنيات لإنتاج جملة موسيقية ولكن الإحساس والدقة بإ صدار الصوت أو النغمة وموضع هذه الجملة الموسيقية يحدد جمالها أكثر مما تحدده التقنية, فالجمال هو الأهم لذلك هنالك عازفون تنبهر حين تراهم يعزفون ولكن لا تستطيع سماعهم عن طريق اسطوانة أو شريط ومن العازفين الذين وازنوا وبدرجات عالية بين التقنية والروحية وهو اسلم ما يمكن التوصل إليه من قبل العازف, الفنان منير بشير فقد وصل إلى تقنيات عالية وفي نفس الوقت يحمل روحا عالية, وقد وصف في إحدى المقابلات بكاهن العود.
الموسيقيون والمتخصصون ينظرون باحترام لهذه الآلة العريقة التي هي أصل الكثير من الآلات لديهم والبعض من عازفي الجيتار واللوت يأتون إلى دراسة هذه الآلة ليعرفوا أصل آلاتهم وأسرارها جيدا, ولكن على الصعيد العام لا يعرف عن هذه الآلة الكثير وليست شائعة جدا مثل آلة السيتار الهندية مثلا, ما عدا في فرنسا طبعا. ولكن بالنتيجة هم ينظرون إلى الموسيقى التي تنتجها أي آلة وأهمية هذه الموسيقى تكمن بقيمتها الجمالية بغض النظر عن الآلة, مثلا هنالك الكثير من العازفين الذين زاروا أوروبا وقدموا الكثير من الحفلات وبدعم من منظماتهم الحكومية والسفارات, ومنهم من عاشوا فيها لسنوات ولكن لم يحصلوا على شيء, ولم تبرز موسيقاهم بين الثقافات الأخرى.