أميـر البـزق محـمد عبـد الكـريم
عبقرية في العزف وموهبة في التلحين
من إعداد: الباحث أحمد بوبس كاتب ومؤرخ موسيقي
لانجافي الحقيقة إذا قلنا إن أمير البزق محمد عبد الكريم، هو أفضل عازف على آلة البزق في القرن العشرين. فقد كان بارعاً في عزفه مبدعاً في ألحانه. تجاوز كل عازفي البزق الذين عاصروه، والذين كان في مقدمتهم محيي الدين بعيون ومطر محمد. ووصلت براعته إلى درجة أن محيي الدين بعيون أفضل عازفي البزق في النصف الأول من القرن العشرين، عندما سمع عزف محمد عبد الكريم، قرر اعتزال العزف، لأنه رأى مستقبل آلة البزق بين يدي هذا العازف الموهوب. بل إن الموسيقار محمد عبد الوهاب اختصر بعبارة موجزة لكنها بليغة المكانة التي وصل إليها محمد عبد الكريم في العزف على البزق حين قال )إذا كانت الموسيقا الغربية تفتخر بباغانيني كأشهر عازف للكمان، فإن الموسيقا الشرقية تفتخر بمحمد عبد الكريم كأشهر عازف للبزق). ومحمد عبد الكريم جمع بين الموهبة الخارقة في العزف وموهبة التلحين، إلى جانب ثقافته الموسيقية التي ساعدته على تنمية هذه الموهبة والتعبير عنها بشكل علمي.
* الولادة والنشأة
في أحد أيام عام 1911، في حي الخضر، أحد الأحياء الشعبية الفقيرة في حمص، ولد الطفل عبد الكريم مرعي في بيت محب للموسيقا والغناء. فوالده علي مرعي كان عازفاً على البزق. وأمه عماشة ذات صوت جميل. وما إن كبر الطفل عبد الكريم قليلاً حتى بدأ يتلقى دروس العزف على يده والده، وما لبث أن انضم إلى الفرقة الموسيقية الصغيرة المكونة من والده ووالدته و شقيقيه سليم ومحمد. وبدأ خياله الموسيقي ينمو حين ثبت مسمارين على قطعة خشب و شد بينهما وتراً و راح يعزف عليها. وبدأت مواهبه في العزف و الغناء، من خلال مشاركته مع فرقة أسرته في إحياء الأفراح في حمص، سواء بالعزف على البزق أو بالغناء، إذ كان يؤدي أغنيات أم كلثوم. وتوفي والده، فتولى شقيقه الأكبر سليم رعايته وألحقه بالمدرسة الابتدائية. لكنه لم يتابع دراسته. لأنه تعرض لحادث مؤلم ألحق أضراراً بالغة في عموده الفقري وأعصابه. فتوقف نموه وطوله عند ثمانية وتسعين سنتمتراً. إلا أن ذاك الحادث لم يؤثر على عبقريته الموسيقية فواصل مسيرته مع الموسيقا.فواصل مسيرته مع الموسيقا .
و بدأت شهرة الطفل ابن السابعة من العمر تنتشر في مدينة حمص. فبدأ يعزف ويغني على مسارحها. وزار حمص المطرب المصري محمد بخيت، فشاركه عبد الكريم العزف ضمن فرقته الموسيقية. كما عزف ضمن الفرقة الموسيقية للمطرب المصري أحمد إدريس الذي كان يرأس فرقته الموسيقية كميل شامبير. و خلال ذلك كله انكب على قراءة الكتب الموسيقية، الأمر الذي ساعده على امتلاك ثقافة موسيقية.
* انتقاله إلى دمشـق
لم تعد حمص تتسع لطموحات عبد الكريم الموسيقية فانتقل مع والدته إلى دمشق ولما يتجاوز العاشرة من عمره. وكان يلح على والدته أن تشتري له آلة البزق. لكن ضيق ذات الحال كان يمنعها من ذلك. وذات يوم كان يسير مع والدته في منطقة باب الجابية بدمشق ـ وكان عمره قد أصبح اثني عشر عاماً ــ فشاهد على بعد أمتار محلاً لبيع الآلات الموسيقية. وفجأة أفلت من يد أمه و تمدد على سكة الترام. وهدد أمه أنه سينتحر تحت عجلات الترام إذا لم تحقق له حلمه بشراء بزق جديد . وكان صاحب محل بيع الآلات الموسيقية، واسمه جميل القوتلي يشاهد المنظر. فخاطب الطفل محمد عبد الكريم: «إذا استطعت أن تعزف على البزق بشكل جيد، فسأقدمه لك هدية». وبالفعل عزف الطفل على البزق موسيقا أغنية (هزي محرمتك). فأعطاه البائع الآلة هدية. وكان لصاحب المحل فرقة موسيقية صغيرة تضم زوجته وابنته، فضمه إلى الفرقة التي كانت تقيم الحفلات في المنازل الدمشقية. وفي نفس الوقت عمل مع أبي شاكر (الكركوزاتي) في مقهى النوفرة. وكان أبو شاكر يقدم فقرات (كركوز وعيواظ)، وكان الطفل يرافقه في العزف. وخلال ذلك تعرف على الزعيم الوطني فخري البارودي الذي قدم له كل رعاية. وأتاح له التعرف على المجتمع الدمشقي. واختار له اسماً فنياً (محمد عبد الكريم) ليعرف منذ ذاك اليوم بهذا الاسم. ولتبدأ انطلاقته الموسيقية على مسارح دمشق.
ولم تعد آلة البزق بوضعها القديم تلبي طموحاته الموسيقية، ولا تساعده على إظهار مهارته في العزف. فقام بإجراء تعديلات هامة عليها. فقام بزيادة حبسات الزند (الدساتين) من سبع عشرة حبسة إلى ثمان وثلاثين. مما زاد في القدرة الموسيقية للآلة. وأصبحت قادرة على أداء جميع النغمات.
أتاح له التعرف على فخري البارودي الاطلاع على الكتب الموسيقية الكثيرة الغربية منها والشرقية. فتزود بالعلوم الموسيقية بالقدر الذي يؤهله ليكون موسيقياً كبيراً. وانطلق يقيم الحفلات على مسارح دمشق.
* رحلاتـه
أولى رحلات محمد عبد الكريم الفنّية خارج دمشق كانت إلى حلب. وأحيا فيها العديد من الحفلات التي انتزع فيها إعجاب ذواقة حلب. وخلال تلك الزيارة تفتحت موهبته في التلحين. فوضع أول ألحانه الغنائية لأغنية (ليه الدلال وأنت حبيبي) كلمات حسام الدين الخطيب وغناها بصوته.
وخلال وجوده في حلب تعرّف على الموسيقي كميل شامبير الذي دعاه لزيارة القاهرة. وفي عام 1925 كانت أولى زياراته إليها. ودامت سنتين. تعرّف خلالها على أقطاب الموسيقا في مصر مثل محمد القصبجي وزكريا أحمد ودواد حسني. وأحيا العديد من الحفلات. وعرض عليه (ليتوباروخ) وكيل شركة أوديون الألمانية للأسطوانات السفر إلى ألمانيا لتسجيل عدة أسطوانات .
في عام 1927 سافر إلى أوربا. وكان لهذه الزيارة هدفان. الأول العلاج من إصابة في العمود الفقري نتيجة حادث السيارة الذي تعرض له. والهدف الثاني القيام بجولة على الدول الأوربية لإقامة حفلات موسيقية. وإذا كان قد فشل في الهدف الأول ــ أي العلاج ــ فإنه حقق هدفه الثاني الذي فاق ما كان يحلم به. و بدأ جولته الأوربية بألمانيا، حيث أحيا العديد من الحفلات على آلة البزق. فاستحق إعجاب الألمان، وسجل خلال وجوده في برلين خمس أسطوانات على البزق.
ومن ألمانيا اتجه إلى فرنسا بدعوة من الجالية العربية فيها. وأحيا عدة حفلات انتزع فيها إعجاب الفرنسيين قبل العرب. وفي إيطاليا أدهش الإيطاليين، خاصة عندما عزف على بزقه لحنين شعبيين لمدينة نابولي. وبعد عودته إلى دمشق أخذ ينتقل بين المدن السورية يقيم الحفلات.
وفي أواخر العشرينات من القرن المنصرم، سافر محمد عبد الكريم إلى بيروت، وتعرف على عازف البزق اللبناني محيي الدين بعيون الذي افتتن بعزفه، فقدمه إلى الوسط الفني اللبناني. وصادف وجوده في بيروت مع وجود فرقة الأخوين أمين وسليم عطا الله ومعهما كميل شامبير الذي كان يقود الفرقة الموسيقية لها. فضم محمد عبد الكريم إلى الفرقة الموسيقية وشارك الفرقة المسرحية في جولتها الفنية في لبنان وسورية وفلسطين والعراق، ليعود بعدها إلى دمشق وقد ازداد خبرة في العزف. واطلع على طرائق التلحين المسرحي.
وفي عام 1934 زار حلب ثانية يعزف ويغني على مسارحها. وخلال تلك الزيارة لحّن مونولوجاً لسلامة الأغواني عنوانه (لو كنت أعرف هيك الحب) نظم كلماته الأغواني نفسه. كما لحّن من كلمات شارل أيوب مونولوج (بانكو بانكو عام جديد) وغناه المونولوجست الحلبي عبد الله المدرس.
* القدس المحطة الأهم
في مطلع الثلاثينيات سافر محمد عبد الكريم إلى القدس. وتعرّف على كبار الموسيقيين الفلسطينيين أمثال يوسف بتروني ويحيى السعودي وروحي خماش ومحمد غازي. لكن زيارته الأهم إلى القدس كانت عام 1936 لحضور حفل افتتاح إذاعة القدس التي عمل عازفاً ضمن فرقتها الموسيقية ثم تولى رئاسة الفرقة. واستمر عمله في إذاعة القدس سنتين. و خلالها لحّن للعديد من المطربين الفلسطينيين منهم فهد نجار وماري عكاوي و محمد غازي.
في تلك الفترة زار محمد عبد الكريم القاهرة بدعوة من شركة أوديوت للاسطوانات لتسجيل بع ض الأغنيات بصوته. ومن الأغنيات التي سجلها (أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعه) لأبي العلا محمد. وعمل عازفاً مع عدة فرق مسرحية، منها فرقة نجيب الريحاني وفرقة أمين عطا الله، وجال معهما في العديد من البلدان العربي (1).
وفي عام 1938افتتحت إذاعة الشرق الأدنى البريطانية في يافا. فاستدعته إدارتها وكلفته برئاسة القسم الموسيقي. فجلب كبار الموسيقيين من مصر وسورية. وأصبحت الإذاعة مقصداً لكبار الفنانين. و تحوّل بيته إلى مضافة لهم. ومن الذين استضافهم في منزله محمد عبد الوهاب ومحمد عبد المطلب وإسماعيل يس ومحمد شكوكو وتحية كاريوكا وفريد الأطرش وغيرهم. ووضع الشارة الموسيقية لإذاعة يافا التي تبث قبل بدء الإرسال يومياً.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سافر محمد عبد الكريم إلى لندن بدعوة من إذاعة الشرق الأدنى لتسجيل بعض أعماله الموسيقية. وأثناء وجوده في لندن أحيا العديد من الحفلات. وبعد زيارته إلى لندن توجه إلى القدس. وقام بدراسة التدوين الموسيقي، الذي كان يجهله، على يد الموسيقي يوسف بتروني. ووضع ألحاناً جديدة لمحمد غازي وماري عكاوي من أشهرها لحنه لأغنية (ياجارتي ليلى) لماري عكاوي وغنتها بعدها بسنوات فايزة أحمد.
* إمارة البزق
ولقب أمير البزق الذي ارتبط باسم محمد عبد الكريم، لم يأته من إنسان عادي، وإنما من الملك فيصل ملك العراق. ففي إحدى الحفلات التي أحياها في باريس حضر الملك فيصل الذي كان في زيارة لفرنسا، وفي نهاية الحفلة قام الملك بتهنئة محمد عبد الكريم على عزفه الرائع وقال له: (أنت أمير هذه الآلة). فطلب عبد الكريم من الملك كتاباً خطّيا لمنحه هذا اللقب. وبالفعل أصدر الملك كتاباً ملكياً. بتسمية محمد عبد الكريم أميراً لآلة البزق مذيلاً بالخاتم الملكي. ومنذ ذاك اليوم عُرف محمد عبد الكريم بأمير البزق.
* استقراره في دمشـق
بعد زيارته الأخيرة إلى القدس مطلع الأربعينيات، عاد أمير البزق إلى دمشق ليستقر فيها بشكل نهائي. وبدأ يمارس نشاطه في نادي دمشق للموسيقا. وقدّم ألحانه عبر إذاعة دمشق المحلية التي توقفت عام 1945.
وبعد افتتاح إذاعة دمشق الوطنية عام 1947، كان محمد عبد الكريم من أوائل من عملوا فيها. فقد عزف ضمن فرقتها الموسيقية. كما كان يقدم وصلات من العزف المنفرد عبر أثيرها أسبوعياً، ووضع لها الشارة المميزة التي تسبق افتتاح البث الإذاعي يومياً.
وفي دمشق خاض العديد من المساجلات الموسيقية و تفوق فيها. ففي أوائل الخمسينيات زار دمشق عازف القانون التركي إسماعيل سنشيلر وكان عازفاً بارعاً. واستدعى مدير الإذاعة أحمد عسة عدداً من كبار العازفين السوريين لمرافقته لكنهم عجزوا عن مجاراته. فاستدعى أمير البزق وطلب إليه مرافقة العازف التركي. ويقول الأستاذ صميم الشريف الذي شهد الحادثة أن محمد عبد الكريم رافق العازف التركي على البزق ثم على العود، وكان نداً له، ورافقهما أيضاً ضارب الإيقاع محمد العاقل. فسجل الثلاثة لإذاعة دمشق مقطوعات موسيقية وارتجالات خارقة، منها لونغا شهناز.
* إبداعاتـه الموسيقيـة
كان محمد عبد الكريم موسيقياً عبقرياً في مختلف أشكال العطاء الموسيقي. فقد كان يتمتع بموهبة خارقة في مختلف المجالات الموسيقية، تدعمها ثقافة موسيقية واسعة. فقد نهل من العلوم الموسيقية والتراث الموسيقي العربي، وتعمق في آلة البزق، حتى كشف أسرارها، فأصبحت بين يديه آلة طيعة، أتقن العزف عليها، كما أتقن العزف على العود. وتجلت إبداعاته في مناح أربعة.
المنحى الأول تمثّل في ابتكاره مقاماً موسيقياً جديداً أطلق عليه اسم (مريوما). والمنحى الثاني قيامه بإجراء تعديل جوهري على آلة البزق فزاد عدد حبساته على الزند من 17 حبسة إلى 38 حبسة، وأضاف إليه وترين مزدوجين، مما زاد طاقة هذه الآلة، وأصبحت تستطيع أداء جميع النغمات.
أما المنحى الثالث في إبداع أمير البزق فتمثـّل في التأليف الموسيقي. إذ كان من رواد التجديد في هذا المجال. وتجديده اعتمد على التراث. وفي ذلك يقول )التجديد ينبع من التراث. وكل تجديد لا ياتي من التراث مصيره إلى زوال). وصب مؤلفاته الموسيقية ضمن القوالب التي عرفتها الموسيقا العربية. فأبدع السماعيات واللونغايات في مقامات موسيقية مختلفة. كما وضع مقطوعات موسيقية زاد عددها عن عشرين مقطوعة. من أشهرها (رقصة الشيطان)، (مداعبات الصباح)، (بين الصنوبر)، مارش (تحية العرب)، (المعركة الموسيقية) التي تمثل قمة عبقريته الموسيقية. فالذي يستمع إليها يشعر أن هناك معركة حقيقية بين الآلات الموسيقية،كما سجل الكثير من التقاسيم و الارتجالات.
وفي المنحى الرابع وهو التلحين، لحن ما يزيد عن مئة أغنية، تُعد من روائع الغناء العربي. وللأسف لم يصلنا من ألحانه إلا القليل. لأنه لحن معظمها للمطربين أو لصوته قبل وجود إمكانية التسجيل. ومالحنه لإذاعة القدس ضاع بعد إحراق الإذاعة عام 1948 من قبل العصابات اليهودية. وألحانه التي وصلت هي من روائع مالحّن. وأول الأغنيات التي لحنها (ياسلام سلم على دول الستات) و(بلاش أونطه يامدموزيل). ثم تتالت ألحانه التي منها(رقة حسنك) لنجاح سلام،(محتارة يا ناس) لسعاد محمد، (يا جارتي ليلى) التي غنتها أولاً ماري عكاوي لإذاعة القدس، ثم فايزة أحمد لإذاعة دمشق. وأغنية (مناجاة طير) للمطربة فتنة وسجلتها لإذاعة دمشق.
* النهايـة الحزينـة
أمضى أمير البزق سنوات طويلة يعمل في إذاعة دمشق، وإذا كانت حياته الفنية غنية، فإن حياته الشخصية كانت متواضعة جداً. فقد أمضى سني حياته الشخصية في غرفة صغيرة وفقيرة في حي عين الكرش وحيداً. وفي الأشهر الأخيرة من حياته انهارت حالته الصحية. نُقل على أثرها إلى مشفى الهلال الأحمر، وتوفي فيه بتاريخ الثلاثين من كانون الثاني عام 1989، و شيع في جنازة متواضعة إلى مثواه الأخير في مقبرة الدحداح.
هوامش:
- مقابلة مع محمد عبد الكريم بعنوان (أمير البزق – من الإقليم الشمالي) – عدنان مراد – مجلة الجيل – بيروت 7/7/1958.
مراجع مساعدة:
1- حول فراش الأمير ــ علي حسني النجار ــ وزارة الثقافة ــ دمشق 1997
2- الموسيقا في سورية ــ عدنان بن ذريل ــ وزارة الثقافة ــ دمشق
- السماع عند العرب ــ مجدي العقيلي ــ دمشق
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجلة الحياة الموسيقية ـ 44 ـ 2007
أوتار أونلاين