حسن دركزنللي
دمشق 1921 ـ دمشق 1968
الفنان الراحل حسن دركزنللي هو الوحيد بين زملائه الذي ظل يتابع رسالته الفنية في النهج الذي اختطه لنفسه إلى أن فاجأته الذبحة الصدرية، واختطفته وهو في أوج شبابه وعطائه.
نشأ في بيت محب للموسيقا والغناء، وكان والده محمد علي دركزنللي يريد لأولاده مستقبلاً بعيداً عن العمل التجاري الذي يزاوله، فأرسله إلى مدرسة الأخوة “فرير ماريست” الفرنسية، فدرس فيها المرحلتين الابتدائية والمتوسطة.
كان دخل العائلة المادي جيداً، وكان الأب يميل إلى الغناء والطرب ويفهم في المقامات الموسيقية في حدود الاستماع، وكان يقيم شهرياً سهرة كبيرة يدعو إليها الأصدقاء وصفوة من سكان حي سوق ساروجة الذي يقيم فيه، وكانت هذه السهرة الحافلة بالغناء والموسيقا والطرب التي تستمر حتى الفجر تستهوي حسن، وتجعله ينتظرها ليحتك بالعازفين ويستفيد منهم. وكان الحاكي “فونوغراف” ملجأه الوحيد بعد المدرسة، وهذا الحاكي يدين له بالشيء الكثير، فهو الذي عرفه على المطربين والمطربات العرب، وهو الذي جعله ينفق نقوده بشراء اسطوانات الموسيقا الغربية الكلاسيكية والراقصة، دون أن يدري بأنها المفتاح الذي سيحدد مستقبله كمؤلف موسيقي.
عندما لمس الأب ميل ابنه الشديد للموسيقا اشترى له آلة عود ليمضي أوقات فراغه بالتعلم عليها، وهكذا غدت هذه الآلة سميراً له، وأخذ يمضي أغلب أوقاته في التعلم عليها لوحده أو مع أصدقائه.
لم يتابع حسن دركزنللي دراسته بعد نيله شهادة الدراسة المتوسطة التي أتقن خلالها قراءة وكتابة اللغتين الفرنسية والإنكليزية بطلاقة مدهشة، وانصرف بكليته إلى الموسيقا فاقتنى آلة “الساكسفون تينور” التي أحبها، واستطاع في برهة وجيزة الإلمام بها.
في أواخر الثلاثينيات أعلنت فرقة موسيقا الجيش الفرنسي عن حاجتها إلى عازفين، فتقدم إلى المسابقة ونجح بتفوق. ويعود سر نجاحه إلى إتقانه العزف على آلة “الساكسفون تينور”، وفي فرقة الجيش الموسيقية وجد نفسه أمام عدد كبير من الآلات الموسيقية، وأمام مدرسين يتقنون عملهم، وخلال سنوات أتقن العزف على آلات “الساكسفون آلتو والكلارنيت، والترومبيت والترومبون” وغيرها من الآلات التي أهلته كلها في المستقبل لأن يغدو موزعاً موسيقياً متميزاً. غير أن آلته المفضلة التي كان يمضي معها يومياً أكثر من ست ساعات هي آلة “الساكسفون تينور” التي جعلته يحترف العزف عليها في المرابع الليلية.
يمكن القول بعد هذا أن انتساب حسن دركزنللي لفرقة الجيش الموسيقية ساعده على إكمال علومه الموسيقية، وعندما أنهى عقده مع فرقة الجيش، كان يتقن التدوين الموسيقي قراءة وغناء، و”الهارموني ـ التوافق” و”الكونترابوان ـ التقابل” و”الفوج ـ الترجيع”، وقد استغرقت منه هذه الدراسات أكثر من خمس سنوات. وعندما قامت الدولة بتأسيس المعهد الموسيقي الشرقي في عهد رئاسة الشيخ تاج الدين الحسني عهد إليه بتدريس مادة “القراءة الصولفائية” وظل يدرس فيه إلى أن أغلقته الدولة.
بعد الجلاء، وفي العام 1947 أسس أول فرقة موسيقية للجاز، وعن طريق هذه الفرقة علَّم المنتسبين إلى الفرقة على مختلف الآلات الغربية والشرقية .وعمد قبل أن يخرج بمؤلفاته إلى الناس، إلى تقديم الافتتاحيات الشهيرة في حفلات عامة، وأشهر الافتتاحيات التي قدمها في الأربعينيات “أسواق فارس ـ لكتلبي” “خليفة بغداد ـ لبوالديو” و”الخيالة الخفيفة ـ لفون سوبه” و”غابات فيينا ـ لجوهان شتراوس”.
في العام 1954 وزع للأستاذ محمد عبد الوهاب عدداً من مقطوعاته الموسيقية التي نالت قبولاً عند مؤلفها وعند المستمعين، وإبان الوحدة بين مصر وسورية دعي لتدريب الفرقة الموسيقية لجامعة دمشق ونال على أثرها تقديراً لجهوده الميدالية الذهبية وشهادة تقدير.. وعندما وزع المقطوعة الشهيرة “آه يا زين” أضحت هذه المقطوعة الأكثر شعبية بين الفواصل الموسيقية الهامة التي كانت تذاع في إذاعتي صوت أمريكا وصوت فرنسا.
تزوج حسن دركزنللي مرتين، وزرق من زوجته الأولى بستة أولاد، ومن الثانية بولد واحد، وهذه الأعباء على ضخامتها لم تصرفه عن متابعة هدفه الموسيقي.
إنتاجه الموسيقي الغزير سار في اتجاهين، الأول التأليف في الإيقاعات الموسيقية الغربية الراقصة التي أولاها عنايته الخاصة حتى طبعت شخصيته بها. والثاني التأليف في القوالب الشرقية التراثية التي أراد من وراء التأليف فيها أن تنطق بلغة الزمن الذي يعيش فيه، وهو في هذا كان صنو الفنان هشام الشمعة الذي سبقه إلى ذلك.
وحسن دركزنللي كعازف متمكن على آلة “الساكسفون” الغربية، وهي آلة نحاسية نفخية، فرَّق كالفنان هشام الشمعة بين الآلات الموسيقية التي تستقيم وأنواع التأليف، فالموسيقا ذات الإيقاعات الموسيقية الراقصة لا تتفق بسبب منشئها الغربي مع آلات التخت الشرقي التقليدية، ومن هنا عمل كالفنان هشام الشمعة في أوج فورة نشاطه على استخدام فرق مختلفة، ميزت تلك الفترة من حياة القطر الموسيقية والتي امتدت منذ أواخر الخمسينيات وحتى وفاته في الستينيات والتي لم تعش بعده. ولم يفكر أحد من الموسيقيين بمتابعة الطريق التي وصل إليها.
ويمكن القول على ضوء محاولات حسن دركزنللي في تكوين الفرق الموسيقية حسب أنواع التأليف، وهو الموسيقي الذي اعتمد على السلم الموسيقي أنه لاحظ كمعاصر لهشام الشمعة دراسات هذا الأخير التجريبية منذ الأربعينيات فتتبع كل ما قام به هشام الشمعة في الفرقة الموسيقية من إصلاحات نأى بها عما جاء به محمد عبد الوهاب من حشر للآلات الموسيقية في التخت الشرقي دون دراسة موضوعية أو إيجاد حل تجريبي تتماشى معه، ومن هنا كانت الفرقة الموسيقية الخاصة بالموسيقا الغربية الراقصة التي جاء بها في سني الأربعينات تعتمد على آلات أسرة الكمان والغيتار والماندولين والبانجو والكلارنيت والإيقاع الغربي دون أن يحشر فيها كما فعل محمد عبد الوهاب وأضرابه في مصر آلات القانون والعود والناي وما إليها.
وكانت الوتريات هي السمة الغالبة في هذه الفرقة، بخلاف فرقة حسن دركزنللي الذي اعتمد على آلات النفخ الخشبية والنحاسية بحكم عشقه لها واستخدامها من قبل الفرق الغربية على نطاق واسع في الموسيقا الراقصة ولعل عمله كقائد لفرقة موسيقا الشرطة من الأسباب التي دفعته إلى استخدام الآلات النحاسية أكثر من الآلات الوترية التي أتينا على ذكرها.
التزم هشام الشمعة بالنسبة للمؤلفات التراثية بالفرقة الشرقية وأغنى المؤلفات التي قدمها بالعلوم الموسيقية دون شطط، واعتمد التوزيع الشرقي في انفراد آلة أو التين في التوزيع الموسيقي، وهو الأمر الذي التزم به أيضاً فيما بعد الفنان الراحل حسن دركزنللي.
نصل من وراء كل هذا إلى أن كلا من هشام الشمعة وحسن دركزنللي لجآ إلى تقسيم صحيح للفرقة الموسيقية في حدود المؤلفات التي عالجوها من شرقية وغربية، وإن تجاوز هشام الشمعة كل هذا إلى الإبداع في استخدام الآلات الشرقية في الأعمال الكلاسيكية كما في ثنائيات العود والكمان والأكورديون وما إليها وتطبيق ما وصل إليه العلم الموسيقي الغربي في الحدود التي تسمح بها المقامات الشرقية.
موسيقا الجاز
وإذا كان هشام الشمعة قد اقتصر على التأليف في قوالب الإيقاعات الغربية الراقصة التي شاعت حتى الأربعينيات، فإن حسن دركزنللي ألف في كل الإيقاعات الراقصة التي انتشرت في العالم حتى الستينيات، وسبق في هذا المضمار جميع أقرانه من المؤلفين الموسيقيين حتى في مصر، وأظهر تمرسه في كتابة الألحان الراقصة بدءً من الفوكس تروت والسلوفوكس وانتهاء بالروك، وأبرز مؤلفاته في هذا المضمار مقطوعات “حائرة” على إيقاع “بيجوين” و”عودي” على إيقاع “المامبو” و”آه يا زين” على إيقاع “التشاتشاتشا” و”سر” و”غائبة” على إيقاع “البوليرو” و”فكرة” على إيقاع “السلو” و”همسة راقصة” على إيقاع “السامبا” وغيرها كثير مما يصعب حصره وتعداده، وقد اشتهرت كلها وبنوع خاص مقطوعة “حسن أبو علي” على إيقاع “البوجي بوجي”.
يمكن القول بعد هذا، أن اهتمامه بالإيقاعات الراقصة وتأليف الألحان على إيقاعاتها لا يعود فقط إلى افتتانه بآلات النفخ النحاسية والخشبية فحسب، وإنما إلى حبه وتعمقه بموسيقا الجاز Jass عموماً.
إلى جانب اهتمامات حسن دركزنللي بالموسيقا الغربية الراقصة وبموسيقا الجاز، اهتم أيضاً بالموسيقا التراثية، فكتب في قوالبها بعض المؤلفات الموزعة، كما في مقطوعاته المعروفة “بشرف فرحفزا” و”من وحي الأندلس” و”من وحي الموشح” و”من وحي رمضان” و”من وحي الذكر”.
كذلك كتب كثيراً من الموسيقا التعبيرية من أبرزها “ابتهال، شروق الفجر، من وحي السماء، ذكريات، وهمسات شرقية” وعدداً من الرقصات “كرقصة الصبايا ورقصة الزنبقة”.
تأثر حسن دركزنللي كغيره من الموسيقيين بالوحدة التي قامت بين مصر وسورية في العام 1958، فكتب عدداً من المؤلفات من أهمها “صوت سورية، الفارس العربي”. كذلك تأثر بالنضال الفلسطيني فوضع عدداً من المارشات الحماسية منها “مارش الثأر” و”مارش المقاوم”.
لحن حسن دركزنللي لعدد من المطربين والمطربات على أنغام الإيقاعات الموسيقية الراقصة وغير الراقصة، فلحن للمطربة “بسمة” واسمها الحقيقي “يولاند أسمر” أغنيات “سؤال، يا ليت سلمى، شو صار، عيناك ضعفي، لن يعود واللقاء” وللمطربة “أحلام” أغنيات “أشواق، الليل، صار لي سنة، خمس كلمات، عندي قلب، رسالة، يا من يحبني” وللمطربة المعروفة “كروان” أغنيتي “عم دوب حنيه، وإنسى حبي”. وقد تحولت بعض هذه الأغنيات بفضل إيقاعها الراقص وموسيقاها الشاعرية، إلى مقطوعات موسيقية، من مثل: “سؤال، رسالة، يا من يحبني”. صميم الشريف
المقال من إعداد المؤرخ الموسيقي: أحمد بوبس
أوتار أونلاين